"الديداكتيك".. كيف نستفيد منها في تطوير التعليم؟

تستدعي العملية التعليمية التعلمية الإحاطة بخصوصيات هذه العملية، وما يحيط بها من علوم التربية والبيداغوجيا والديداكتيك، ولعل هذا الأخير يكتسي أهمية بالغة، إذا اعتبرنا أنه مرتبط بالجانب التطبيقي من العملية التعليمية التعلمية، وبالتالي يمكن القول بأن الديداكتيك يشكل ضرورة ملحة بالنسبة لعملية التدريس، باعتباره يساهم في تمكين الأطر التربوية من أداء أدوارها بشكل فعال، وذلك من خلال التوفيق بين المناهج والبرامج الدراسية مع وضعيات التدريس المختلفة. ومن ناحية أخرى يساهم الديداكتيك في ضبط الإجراءات والتدابير المناسبة لتدريس المادة الدراسية، بالإضافة إلى التخطيط الذي يساعد في تحقيق الأهداف والكفايات. كما يمكن اعتبار الديداكتيك بمثابة تصور يوضح فلسفة المنهاج، ويساعد على استنتاج مجموعة من الاستراتيجيات الفعالة في عملية التدريس.

تتجلى أهمية الديداكتيك في تمكينه المدرسين من فهم طبيعة أدوارهم، وتفعيل عملية تدخلهم فيما يتعلق بتشخيص الصعوبات التي تستدعي العلاجات الضرورية، وذلك من أجل تصحيح مختلف وضعيات التعلم وتقويمها. وهي المعالجة التي تتطلب تحيين أنماط التجديد والتطوير والتغيير في جوهر العملية التعليمية التعلمية، والتي أصبح بموجبها التركيز منصبا على المتعلم بدل المدرس والمادة التعليمية من جهة، ومن جهة أخرى الانتقال من بيداغوجيا التلقين والأهداف نحو بيداغوجيا الكفايات. كما أن الديداكتيك يسهل عملية النقل الديداكتيكي السليم للمعارف والقيم والمهارات والكفايات المستهدفة إلى أنشطة مدرَسة في وضعيات ديداكتيكية خاصة، بالإضافة إلى ضبط عملية صياغة البطاقات والشبكات المؤطرة لأنشطة التدريس، والتي تساعد على التحكم في مقاطعه ومدخلاته وعملياته ومخرجاته. بالإضافة إلى التحيين المتواصل لوسائل العمل الديداكتيكي. وهكذا كان لزاما الوقوف عند مفهوم الديداكتيك.

إذا انطلقنا من المعنى اللغوي للديداكتيك، فإن أصله يعود إلى الكلمة اليونانية DIDAKTIKOS، والتي تعني كل ما يهم التدريس والتعليم، ويقابله في الترجمة إلى العربية عدة مفردات؛ كعلم التدريس أو فن التدريس أو منهجية التدريس، والتدريسية أو علم التعليم أو التعليمية، والتربية الخاصة أو الديداكتيك أو الديداكتيكا. أما المعنى الاصطلاحي للديداكتيك فنجد أن هناك من يعتبرها بمثابة علم مساعد للبيداغوجيا، وتسند إليها مهمات تربوية عامة من أجل إنجاز تفاصيلها. وهناك أيضا من يعتبرها بمثابة تأمل وتفكير في طبيعة المادة الدراسية، وغايات تدريسها، بالإضافة إلى صياغة فرضيات خاصة انطلاقا من المعطيات المتجددة والمتنوعة باستمرار، كما أنها دراسة نظرية تطبيقية للفعل البيداغوجي المتعلق بتدريس تلك المادة. ومن خلال ذلك نستنتج أن الديداكتيك تتمحور حول المتعلم والمادة الدراسية والمدرس، وموضوعها هو سيرورة التعلم والفعل البيداغوجي، وتستمد مرجعياتها من علم النفس وعلم الاجتماع ونظريات التعلم، أما حقلها النظري فهو البيداغوجيا، وتتمثل مهمتها في التأمل في طبيعة المادة الدراسية وغايات تدريسها، بالإضافة إلى صوغ فرضيات، وحل مشكلات التعلم.
تهتم الديداكتيك بمضامين التعلم وبالتفاعلات التي تربط بين كل من المتعلم والمعرفة قصد تسهيل عملية اكتساب المعرفة من قبل المتعلمين، وتركز على المفاهيم الأساسية التي تؤثر في المادة الدراسية، وتحلل العلاقات بينها، كما تسلط الضوء على الجانب الاجتماعي من عملية التدريس، وذلك عن طريق تدبير كيفية عمل المفاهيم في المجتمع، والممارسات الاجتماعية التي تحيل عليها. كما ينصب اهتمام الديداكتيك على تشخيص وتحليل وضعيات القسم، من أجل استنتاج الطريقة الملائمة لاشتغال هذه الوضعيات، بالإضافة إلى دراسة تمثلات التلاميذ وصيغ تفكيرهم، وتحليل طرائق تدخل المدرس، حتى تتضح الإمكانيات التي ينبغي اقتراحها من أجل تجويد عملية التدريس. وفي نفس السياق يعتبر محمد الدريج بأن الديداكتيك هي الدراسة العلمية لطرق التدريس وتقنياته ولأشكال تنظيم مواقف التعليم التي يخضع لها المتعلم، قصد بلوغ الأهداف المنشودة، سواء على المستوى العقلي المعرفي أو الوجداني أو الحسي الحركي أو المهاري. كما تتضمن البحث في المسائل التي يطرحها تعليم مختلف المواد، ومن هنا تأتي تسمية "تربية خاصة" أي خاصة بتعليم المواد الدراسية (الديداكتيك الخاص أو ديداكتيك المواد) أو منهجية التدريس، في مقابل التربية العامة (الديداكتيك العام) التي تهتم بمختلف القضايا التربوية.

إذا كان النسق هو نظام من التفاعلات بين العناصر والمكونات، فإن التعريف النسقي للديداكتيك يضعنا أمام العلاقات التي تربط بين مكونات الديداكتيك، ويندرج في هذا السياق كل تعريف يهتم بهذه العلاقات، وهكذا يمكن القول بأن الديداكتيك تشمل كل من المادة الدراسية (المعرفة) والمدرس والمتعلم، وفي إطار هذا المثلث يمكن الحديث عن ثلاثة أقطاب مهمة تخص العملية التعليمية التعلمية؛ حيث نجد ما يسمى بالقطب الإبستيمولوجي، والذي يخص علاقة النقل الديداكتيكي للمادة الدراسية من طرف المدرس، وتكون مبنية على تحليل المضمون المعرفي من طرف المدرس، ثم القطب البيداغوجي، والذي يتجلى في إطار علاقة التعاقد الديداكتيكي بين المدرس والمتعلم، وفي الأخير نجد القطب السيكولوجي في إطار العلاقة التي يتمثل من خلالها المتعلم المادة الدراسية، وتكون هذه العلاقة مبنية على ثلاث قضايا أساسية، وهي قضية التعلم الذاتي أي التملك الذاتي للمعرفة، وقضية العوائق الإبستيمولوجية والتي تحول دون امتلاك الطفل للمعرفة العلمية، وقضية التصورات أو التمثلات، وهنا يمكن الحديث حول قضية العلاقات التربوية، وقضية العقد الديداكتيكي الذي يربط التلميذ بالمدرس، ثم قضية التصورات التي يحملها المدرس حول مختلف الوضعيات التربوية المناسبة لتسهيل عملية التدريس.

تتمثل علاقة التعاقد الديداكتيكي في مجموع القواعد والمواضعات والاتفاقات والمعايير التي تحدد بشكل صريح أو ضمني التزامات وأدوار ومهام كل من المدرس والمتعلم، والمنتظر القيام بها وإنجازها، بهدف تحقيق التعلم، واستيعاب المعارف واكتساب المهارات، ويندرج في هذه العلاقة كل ما من شأنه أن يؤطر العلاقة بين المدرس والمتعلم، والنظام السائد في القسم، وما تفرضه المادة الدراسية من شروط الإنجاز، وتحديد المهام المطلوب إنجازها، بالإضافة إلى أشكال الجزاء، والإطارات المرجعية للتقويم التي تحدد شروط التحقق من الوفاء بالالتزامات، وأداء المهام والأدوار، وتصحيح الوضعيات، مما يمكن من نجاح الفعل الديداكتيكي وتحقيقه لغاياته وأهدافه.

تتجلى علاقة النقل الديداكتيكي في مختلف عمليات الانتقاء والاختيار والتحويل والتفكيك وإعادة التركيب والتصنيف والتقسيم والتبويب، الجزئية أو الكلية، التي خضعت لها المادة المعرفية في المنهاج أو البرنامج الدراسي، وكل صيغ التفكير في المعارف وتحليلها بغرض جعلها قابلة للتعليم. كما أن هذا النقل هو مجموع المعايير التي تخص الإدماج والتحيين والتكييف والتوجيه للمعارف والمهارات والقيم في سياق تربوي وتعليمي معين، وإدراجها في محتويات وموضوعات دراسية منظمة. ويمكن اعتبار النقل الديداكتيكي بمثابة استراتيجيات تدخل المدرس في بناء مادة تخصصه، بهدف إخضاعها لمنطق الفصل الدراسي، وجعل معطياتها مسايرة لإيقاع التعلم ووضعياته، بضروب من التقديم والتأخير، والإرجاء والانتهاء، وإعادة البناء والتنظيم، وفق المشروع الديداكتيكي المقترح من طرف المدرس.

وفيما يتعلق بعلاقة التمثلات، والتي تخص علاقة التلميذ بالمادة الدراسية، نجد أن المتعلم يوجد في وضعية تعليمية تعلمية، أي مجموع الإستعدادات والمؤهلات النفسية والعقلية والوجدانية والجسمية، ومجموع المكتسبات القبلية، وانطلاقا منها يتم استدماج واستيعاب المعارف الجديدة. أما المادة المعرفية فهي ليست بنيات جاهزة ومغلقة ومنتهية، بل إنها في وضعية بناء وتشكيل وتكوين، وهي حصيلة نشاط تبادلي، يحتل فيه المتعلم دورا مركزيا في بناء المادة وتفسيرها وتأويلها والتحكم فيها. ويمكن تحديد التمثلاث من حيث هي علاقة الذات المتعلمة بالمعرفة المراد تعليمها، في السيرورات الإدماجية التي يتم عبرها فهم وتفسير وتأويل المعارف من قبل المتعلمين، ويتجلى في الكيفية التي يستقبل بها المتعلم المعرفة المدرسية، وما أدركه المتعلمون من هذه المعرفة، أو ما فهموه منها حسب إيقاع تعلمهم ومؤهلاتهم وقدراتهم، بكل ما يحمله هذا الفهم والإدراك من غموض أو تحريف أو تحويل. كما تتجلى التمثلاث في البنيات النفسية والذهنية التي يستوعب بها المتعلم المعارف والمفاهيم والمهارات، وفي التفاعلات الحاصلة بين مكتسبات المتعلم القبلية والوضعيات التعليمية الجديدة.

هكذا نستنتج بأن الديداكتيك يحتل مكانة مهمة في العملية التعليمية التعلمية، نظرا لما ينطوي عليه من طرائق وتقنيات وأساليب تهدف بالأساس إلى تجويد عملية التدريس، وهي العملية التي تركز على المتعلم بالدرجة الأولى، وتجعله مشاركا في بناء التعلمات، بتوجيه من المدرس، وبالاعتماد على مجموعة من المعارف المخصصة لهذا الغرض، وهنا تتجلى أهمية الديداكتيك، هذا الأخير لا يسير بمعزل عن علوم التربية والبيداغوجيا، باعتبارهما يمهدان ويسهلان الطريق أمام ما تستدعيه العملية التربوية بشكل عام. من خلال ذلك، حاولت في هذا المقال تسليط الضوء على مفهوم الديداكتيك، وما يتضمنه من تفاصيل تهم بالأساس عملية التعليم والتعلم. وللإشارة فقد تم إنجاز هذا المقال بالاعتماد على مجموعة من المصادر والمراجع التي تتحدث حول الديداكتيك، كل ذلك من أجل توضيح الغموض الذي يحيط بهذا المفهوم.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-